النماص

 


 النماص 

سفر الرحيل والبقاء

المؤلف: بلقيس الملحم
عدد الصفحات: ٢٩٠
الناشر: دار غاف

رواية

**

"كنت أريد الاستمرار في فتح صفحات مجهولة، والفُرجة على حياةٍ قديمةٍ ليست لي لكنّها متعلقةٌ بي"

هنا نتتبع حياة ميمون بن هارون، الطفل اليماني الذي يفقد عائلته في ظروف قاسية، فيُؤتمن إلى رجل من بني عمرو يُدعى غرمان وزوجته سعدة، اللذين يربّيانه في النماص مع ابنهما صالح ويمنحانه اسمًا جديدًا هو حسن. يكبر حسن داخل هذه البيئة الجنوبية بثقافتها ولهجتها وذكرياتها، دون أن يعرف شيئًا عن جذوره. ومع تقدمه في العمر، تبدأ الأسئلة حول هويته الحقيقية بالظهور عندما يعلم بوجود قريب له في الرياض، ويدفعه ذلك إلى رحلة بين النماص والرياض واليمن بحثًا عن أصله، ممزقًا بين الانتماء الذي تربّى عليه والدم الذي يكتشف أنه يحمله.

روح المكان كانت طاغيةً في الرواية، الوصف كان واقعياً والمشاهد غمرتني حتى شعرت بأني جزء من الطبيعة والبيوت واللهجة التي كانت حاضرة وبقوة في بعض الحوارات. نجحت الملحم في رسم المكان بوصف حيّ يثبت أنها ترى المشهد بعينيها قبل أن تكتبه.


"كل عمري قضيته واقفًا. والآن حين عرفت حقيقة جذوري الإيمانيّة خانتني قدماي، وكانت فرصة للغياب داخل معركةٍ مؤجّلةٍ ومفلسةٍ منذ أزمنةٍ بعيدة وكأنّ اللّحظة فيها هي البداية والنهاية"


ومن هنا انطلقت الرواية من صراع هوية معقد ومشدود طُرح بوضوح، وربما ببعض المباشرة، لكنها بقيت هادئة وبعيدة عن الافتعال. اختيار الديانة اليهودية كان خيارًا واعيًا - برأيي - لزيادة حدّة الصراع. فكيف لإنسان تربّى على الإسلام وعلى نفور طبيعي من كل ما يرتبط باليهودية، أن يكتشف أن جذوره يهودية؟ وكيف يواجه محاولة استقطابه إلى دين آخر ثم إلى الهجرة لإسرائيل نفسها؟. وعلى تشابه الأعمال التي تناقش الهوية والجذور بدوافعها العميقة، إلا أنها ميزت عملها من خلال شدة الصدام الديني وصعوبته.

الرواية متماسكة، وتُظهر تمكن الملحم من بناء السرد وربط الأحداث دون تشتيت. اللغة هنا شاعرية دون إفراط، مباشرة دون جفاف، وتصل بدرجة توازن تجعل القراءة سلسة وممتعة. لكن كتابة منظور الرجل لم تكن مقنعة لي دائمًا في النص، إلا أن شخصية حسن/ميمون ظلّت مؤثرة ومحمّلة بما يكفي من التردد والأسئلة والبحث عن الذات.


مع ذلك، لدي بعض الملاحظات: الرواية ليست مناسبة للجميع بسبب وجود بعض الإيحاءات والمشاهد التي لا تناسب الصغار، إضافة إلى مأخذ واضح: اعتماد الكاتبة على حادثة من الإسرائيليات تتعلق بصناعة العجل ونسبتها لهارون عليه السلام، رغم أننا نعلم كمسلمين وبهدي القرآن الكريم أن من فعل ذلك هو السامري. لو جاءت على لسان الشخصية اليهودية لكان السياق مقبولًا، لكنها قيلت على لسان مسلم، وهذا ما جعلها تُقرأ كخطأ معرفي لا كخيار سردي.


في النهاية، لا تقدّم الرواية إجابة نهائية عن الهوية، بقدر ما تدفع القارئ للتفكير في معنى الانتماء، وفي الأثقال التي نحملها حين نعرف أكثر مما نحتمل. تتركنا أمام سؤال بسيط في ظاهره، قاسٍ في جوهره: كيف نواصل الحياة حين تهتز صورتنا عن أنفسنا؟


"خُذ الحياة برفق وإن عذّبتك!"


ليست للجميع 🔞

..

 اقتباسات مبعثرة 

"كلّ من في هذا البيت يشبه الآخر. كلّ من في هذه القرية يشبه الآخر أيضاً"


"ترى هل سيبقى عمري ناقصًا فعلًا وأنا أودّع النّماص على مشهدٍ ذي ديمومة!"


"استسلامنا للصّمت لا يعدو أحيانًا أن يكون نفض أيدينا نهائيًا من هذه الحياة."


"صرت أشبه أصولي أكثر حتى أصبحت الثّياب هي من تلبسني لا أنا من يلبسها"


"صنعاء كلّها حلم، وأنا الفتى الذي ألفاها حتى تولّع بها وعليّ أن أشبع منها وأرتوي"


"إنّه يومٌ كغيره من الأيام. لا يخلو من أيّ حركةٍ غير مألوفة. أناسٌ تشبهني كثيرًا. تمضي إلى أرزاقها ولا تدري بأيّ أرضٍ تموت. وفي لحظةٍ حاسمةٍ نكون قد خلّفنا أقدارنا خلفَنا وبقينا في انتظار مصائرنا المتقاطعة. هكذا أحببتُ أن أكون. ظاهرًا وشبه خفيِّ، لدرجة أن مرافقي العجوز يأس من كثرة سؤاله عنّي! لقد كنت مثل الرّيح في ظهورها، إذ تمرُّ تخفِّي الضّوء والبذور. لقد ظنَّ أنني كبساطةِ خفقان القلب يضُخ ويخفت، وإذا أحسّ بدنو الأجل فإنه يحكي كلّ شيء."

تعليقات

المشاركات الشائعة